لنبتدأ بالأسئلة السهلة، لعلها توصل إلى نظيراتها الأكثر عمقاً، عن الذكاء الاصطناعي التوليدي. لماذ أثارت هذه التقنية في تعامل الآلات مع البشرية كل ذلك الضجيج غير المألوف منذ إطلاق نموذج روبوت الدردشة “تشات جي تي” Chat GPT، وتلاه “جي بي تي”، على يد سام آلتمان، مدير شركة “أوبن إيه أي” Open ai؟ لماذا وصلت نبرات نقد تلك التقنية إلى مستويات مرتفعة تماماً من التحذير، بل التوجس الكوارثي؟ أليس ملفتاً أن ذلك التفكير النقدي التحذيري صدرت من كبار صناع التقنية والمتعاملين معها؟ ألا يجدر التنبه إلى مدى تبني مؤسسات النظام الدولي للنقد التحذيري المرتفع حيال تلك التقنية، وقد وصل إلى حد صوغ مدونة سلوك حيالها من قِبَل الاتحاد الأوروبي، وإطلاق الأمم المتحدة مبادرة دولية للتوصل إلى عمل دولي منسق بشأنه، وانخراط البيت الأبيض في اجتماعات متوالية مع كبار قادة شركات المعلوماتية والاتصالات المتطورة، التي ترعى صنع وتطور الذكاء التوليدي، للتوصل إلى رؤية عن سبل للوقاية من مخاطره؟
وقبل السعي إلى تقصي مسارات قد توصل إلى إجابات، وربما تفشل في ذلك، يجدر البدء بسؤال أولي عن ما هو الذكاء الاصطناعي التوليدي؟ ما الجديد فيه الذي أثار كل ذلك الضجة الكبرى؟ كيف يعمل؟ هل إنه يفكر حقاً، أم أنه، وفق ما ذكر خبراء تعلّم الآلات في فيسبوك، ليس تغييراً أساسياً ولا ثورة تقنية؟
قبل كل شيء، من الواضح أن تتبع تلك الأسئلة أمر لا يدركه مقال ولا حتى مجموعة كبيرة منها، لكن لا بأس من محاولة إلقاء بعض الأضواء الخاطفة على ملامح معينة في تلك التقنية التي أثارت الالتباسات والمخاوف، بالإضافة إلى التفاؤل باستمرار تطور العلاقة بين ذكاء البشر و”نظيره” لدى الآلات.
ذكاء توليدي؟ ماذا يعني ذلك؟
الأرجح أن كلمة توليدي Generative تشكل مكمن الفارق في التطور والمخاطر التي حملتها التقنية الجديدة. إذ يتداول مصطلح الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence في الإشارة إلى ذكاء الآلات، منذ أعمال العالِم الشهير الآن تورينغ (1912- 1954) قبيل منتصف القرن العشرين. منذها، توقع تورينغ أن ذكاء الآلات سيتطور كي “يحاكي” ذكاء البشر، لكن الفارق بين الإثنين سيبقى مستمراً. وطالب تورينغ بأن يستعد البشر لقبول ذلك الذكاء. المفارقة أنه وضع امتحاناً اعتُبِر محكاً حاسماً، لاختبار مدى التشابه بين الذكائين. طيلة عقود مديدة، لم يستطع ذكاء الآلات أن يجتاز بصورة فعلية “اختبار تورينغ” Turing Test. المفارقة أن الذكاء التوليدي استطاع اجتياز ذلك المحك، ما يعني أنه انتقل إلى مرحلة التطور باتجاه التقليد و”التشابه” مع ذكاء البشر. [بإمكان هواة السينما الرجوع إلى فيلم “لعبة التقليد” Imitation Game (2014) الذي قدم عملاً فنياً عن المبتكر تورينغ].

تواصل معنا