على امتداد قسم كبير من العصر الحديث كان تقييد تدفق الطاقة أو تعطيله أداة شديدة الفعالية في موازين القوة العالمية، ففي عام 1923 أعلن الأدميرال ريغنالد بيكون من “البحرية الملكية البريطانية” أن الحصار النفطي الذي فرضته المملكة المتحدة على ألمانيا خلال الحرب العالمية الأولى كان السلاح الاقتصادي الحاسم الذي “يرجع إليه في شكل أساس الانهيار النهائي لتلك الأمة وجيوشها”، وبعد جيل واحد نسب الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين انتصار الحلفاء على ألمانيا النازية إلى نجاح الجيش الأحمر في حرمان هتلر من الوصول إلى حقول النفط في القوقاز، ثم جاءت أزمة حظر النفط العربي عام 1973 التي تسببت في ارتفاع أسعار البنزين في الولايات المتحدة بنسبة قاربت 300 في المئة، وظهور طوابير سيارات تمتد لأميال أمام محطات الوقود، وهي تجربة لا تزال محفورة في الذاكرة الوطنية الأميركية.
لكن خلال العقود الخمسة التالية تراجعت ممارسة استخدام الطاقة كأداة قسرية في الدبلوماسية الدولية بدرجة كبيرة، فقد دفعت الآثار الكارثية لحظر النفط العربي على الاقتصاد العالمي كلاً من الدول المنتجة والمستهلكة إلى إعادة التفكير في سياساتها، فسعت الدول المستهلكة خلال الأعوام التالية إلى جعل تدفقات الطاقة أكثر مرونة، وبناء أسواق دولية أقوى وأكثر شفافية، فيما كبح المنتجون ميلهم إلى توظيف قوتهم في مجال الطاقة كسلاح جيوسياسي، ثم جاءت نهاية الحرب الباردة وما تلاها من تسارع في العولمة لتعزيز إصلاحات عمقت اندماج أسواق النفط ووسعت تنوع مصادر الطاقة.
وفي مطلع القرن الـ 21 أثبتت مخاوف ارتفاع الأسعار وفكرة “ذروة النفط”، الفكرة القائلة بأن إنتاج النفط العالمي بات قريباً من حده الأقصى قبل أن يبدأ بالانحدار الحتمي، أنها موقتة، إذ أحدثت ثورة الحفر الصخري الأميركية طفرة غير مسبوقة في المعروض النفطي، واستمرت أسعار النفط في التذبذب خلال النزاعات الكبرى مثل حرب الخليج الأولى والحرب الأهلية الليبية، وكذلك خلال الأزمات العالمية مثل الركود الكبير وجائحة كورونا، ومع ذلك ظل المستهلكون، ولا سيما في الاقتصادات المتقدمة، على ثقة متزايدة بأن الأسواق قادرة على تلبية حاجاتهم من الطاقة، ومع مرور الوقت انجرفت دول عدة إلى حال من الاطمئنان الزائف إزاء أمن الطاقة.
أما اليوم فقد انهارت تلك الطمأنينة، فبعد غزوها أوكرانيا عام 2022، ألحقت روسيا أضراراً اقتصادية هائلة بأوروبا عبر خفض إمداداتها من الغاز الطبيعي إلى القارة، مما أشعل أزمة طاقة ذات ارتدادات عالمية، وفي إطار مواجهتها التجارية الأوسع مع الولايات المتحدة عمدت الصين بصورة متكررة إلى تقييد صادراتها من المعادن الحيوية والعناصر النادرة، وهي مكونات أساس في سلاسل الإمداد الخاصة بأشباه الموصلات والتطبيقات العسكرية والبطاريات والطاقة المتجددة.
أما الولايات المتحدة نفسها فقد سيّست بدورها تدفقات الطاقة، إذ طالبت أوروبا بشراء مزيد من الطاقة الأميركية لتفادي الرسوم الجمركية التي هددت بفرضها، وحتى دول مثل كندا دخلت حلبة الصراع حين فرض إقليم أونتاريو رسوماً إضافية على صادرات الكهرباء إلى الولايات المتحدة، رداً على الرسوم الجمركية الواسعة التي فرضها الرئيس دونالد ترمب على السلع الكندية، وبينما يعيد المنتجون استخدام “سلاح الطاقة” الذي ظل معطلاً لعقود فقد بدأت الولايات المتحدة وغيرها أيضاً في استعراض نفوذها مجدداً على إنتاج الطاقة وشرائها، كما يظهر في الخطوات الأخيرة لواشنطن بحظر معظم شركات النفط والغاز الأميركية من العمل في فنزويلا، ودرسها فرض عقوبات أشد على الدول التي تشتري صادرات النفط الروسية والإيرانية.
في عالم اعتاد استقرار أسواق الطاقة وأمنها النسبي، واغتر بوهم أن التحول نحو الطاقة النظيفة سينهي الطابع الجيوسياسي المرتبط بالطاقة، شكلت عودة “سلاح الطاقة” مفاجأة لكثيرين، غير أن هذا الاتجاه لا يتوقع أن يتوقف قريباً لسببين رئيسين: أولاً لأنه في ظل عودة التنافس بين القوى الكبرى وتصاعد التشرذم الاقتصادي فقد باتت الطاقة مرة أخرى أداة جذابة للإكراه الجيواقتصادي، وثانياً لأن التطورات المتسارعة داخل قطاع الطاقة تخلق فرصاً جديدة لتسليحها، حتى في وقت تخفف بعض العوامل الأخرى من هذا الخطر، ولحسن الحظ تتوافر مجموعة واسعة من الأدوات والسياسات لمعالجة هذه التهديدات، ومعظمها يتوافق مع التحول نحو الطاقة النظيفة بل ويزداد فعالية بفضله، فالإسراع في التحول إلى مصادر الطاقة الخالية من الكربون يمكن أن يوافر للدول في نهاية المطاف شكلاً قوياً من القدرة على الصمود في وجه محاولات استخدام الطاقة كسلاح، خصوصاً إذا ترافق هذا التحول مع جهود لتنويع سلاسل إمداد الطاقة النظيفة

التعليقات معطلة.

