إنه الشريك الجديد الذي دخل بيوتنا وأعمالنا من شاشات الهواتف والكمبيوترات والأجهزة اللوحية، تربع في منتصف حياتنا منتظراً منا سؤالاً أو استيضاحاً أو حتى دردشة خفيفة. ندخله من حيث ندري أو لا ندري في شؤوننا، نصبح عليه ونمسي، نشكره على ما يمدنا به من معلومات، نشكو له آلامنا الجسدية والنفسية، نطلب منه مقادير الطبخ والدواء ورفع معنوياتنا وكتابة فروضنا واقتراح فيلم السهرة وتنظيم مصروفنا وإمدادنا بالدراسات حول مشاريع مربحة.
لم نعد نقول “Google it”، فـ”غوغل” أصبح يبدو بخيلاً جداً ويعطينا طرف الخيط، أما “تشات جي بي تي” وإخوانه فتغدق علينا بما نحتاج وما لا نحتاج حتى من خيوط وتفاصيل، وتبدو ثرثارة جداً، وفي أحيان كثيرة تخلط المعلومات الصحيحة والمضللة، فلا يمكن الوثوق بها كمراجع علمية دقيقة.
البعض يطلق على “تشات جي بي تي” اسماً وكأنه طفله أو حيوانه الأليف، لكن الفارق أنك تستطيع أن تهمله وأن تذمه، وتكثر من الأسئلة فلا يتذمر، بل يعتذر ويفتح ذراعيه متلقفاً كل هواجسك ويمتصها كإسفنجة ويدخلها في دهاليز صناديق الداتا لديه ربما، تحت غطاء تحسين التجربة، وبالطبع هذا الأمر يفتح الأبواب على أسئلة كثيرة حول الخصوصية.
هذا بعد واحد من أبعاد أدوات الذكاء الاصطناعي، لكن أبعاداً كثيرة تنطلق منه كما تطلق العنكبوت خيوطها فتمتد وتتشابك في نقاط كثيرة. بعد آخر هو المضامين التي يقدمها لنا الذكاء الاصطناعي على طبق الشاشات وبسرعة قياسية، فكيف تطورت هذه المضامين؟ ما هو مصدرها؟ وهل هي أصيلة؟ وفي أي المجالات تهدد المضمون البشري؟
بداية الأتمتة
لعقود طويلة كانت الآلة مجرد أداة بيد الإنسان، فكان يكتب ويصور ويحرر ويبدع، ويجعل التكنولوجيا تخدمه في التوزيع والنشر، لكن المشهد المعتاد هذا بدأ يتغير منذ بضعة أعوام، وصارت الآلة نفسها تنتج المحتوى أو المضمون، وقادرة على كتابة مقال ورسم لوحة، وصولاً إلى إخراج فيلم قصير، حتى الآن. وبات السؤال الذي يطارد كل صانع محتوى اليوم يتمحور حول مدى منافسة الذكاء الاصطناعي بمضامينه، فهل سيظل مساعداً للإنسان أم سيستبعده من مشهد إنتاج المضمون بحيث يبقى متفرجاً متحسراً؟
ولا بد هنا من استذكار مهن كثيرة قضت عليها التكنولوجيا المتمثلة بالكمبيوتر قبل عهود، مثل الطباعة على “الداكتيلو”، وصف وتنضيد الحروف في المطابع والمحاسبة اليدوية، ورسم الخرائط والتخطيط والأرشفة والفهرسة وسواها.
من ELIZA إلى Sora
تبدو البداية بريئة جداً، فقد ظهر عام 1966 برنامج ELIZA، الذي ابتكره عالم الكمبيوتر الألماني الأميركي جوزيف فايزنباوم، ليحاكي محادثة مع معالج نفسي، لكنه لم يكن يفهم المعنى فعلياً، واعتمد على مطابقة الأنماط اللغوية وإعادة صياغة جمل المستخدم في شكل أسئلة، مما أعطى وهم الحوار الإنساني من دون وعي أو ذكاء حقيقي. ولم يتوقع أحد حينها أن تصبح هذه المحاكاة البسيطة نواة لثورة إبداعية، إذ بعد نصف قرن تقريباً، جاء العام 2014 بطفرة الـGANs أو الشبكات التوليدية الخصامية، التي ابتكرها الباحث الكندي إيان جودفيلو، وهي نوع من الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي يستطيع خلق صور أو أصوات أو فيديوهات جديدة تشبه الحقيقية تماماً، وتقوم على شبكتين عصبيتين تتنافسان، الأولى تولد بيانات مزيفة كالصور وأصوات، بينما تحاول الثانية كشفها، ومع التكرار تصبح البيانات المولدة شديدة الواقعية بحيث يصعب التمييز بينها وبين الحقيقية.
ثم بدأت الخطوات تتسارع بصورة جنونية، فظهر DALL-E من OpenAI عام 2021 ووصل إلى الجمهور العريض بعدها بعام مع تحسينات إضافية مدمجة بـ”تشات جي بي تي”، ومثله Stable Diffusion عام 2022، ولم يتوقف فيض البرامج المختلفة المخصصة إما للصور أو للفيديوهات أو للصوتيات أو للكل معاً. وصار بإمكان أي شخص أن يكتب ما يريد في خانة، ليحصل إما على معلومات مكتوبة أو بصرية ويتسلمها بثوان معدودة، مما أطلق العنان لمخيلات جامحة لفنانين وأشخاص عاديين يطلبون، على سبيل المثال، إنشاء صورة لرجل يجلس على حافة فنجان قهوة، أو غروب شمس فوق بيروت بأسلوب فان غوخ، أو سيدة نصفها ذئب، أو عامل نظافة يمسح الغبار داخل الدماغ، ويتسلم لوحة فنية خلال ثوان، مما جعل العمل الذي كان يأخذ ساعات لتنفيذه على برامج مثل Photoshop وIllustrator وسواهما يبدو وكأنه نحت في صخر أصم.
ويمكن القول إن اللحظة المفصلية جاءت مع Runway Gen-2 ثم Sora من OpenAI عام 2024، القادر على توليد فيديوهات دقيقة كاملة، بجودة تشبه إعلانات مصورة بملايين الدولارات، وظهرت وكأن برنامجاً بسيطاً للتسلية تحول إلى كاميرات افتراضية تهدد هوليوود في رحلة لم تستغرق سوى بضعة عقود

التعليقات معطلة.