في النكتة السياسية
هل سمعت آخر نكتة؟
نعلم أنك ستجيب بـ “لا” ومن ثم تصعد إلى محياك ابتسامة مشوبة بالانتظار والتلهف للسماعها، حتى وإن كنت قد سمعت آخر نكتة قبل لحظات.. تلك حالة عفوية يخلفها فيك الشعور الداخلي الذي لا يستطيع أن يقاوم، رغبة الاستماع إلى نكتة جديدة.
هل سمعت أخر نكتة؟
سؤال يستفز كل خلاياك الحسية ويجعلك تتشوق لسماعها مستنفرا كل قدراتك للإحساس بلذة خفية عارمة وأنت تتهيأ لمفاجأة ظريفة..
إن انتشار النكتة بمجتمعنا تنطوي على أبعاد ومضامين اجتماعية وثقافية جديرة بالتأمل، فهناك مقولة مقتبسة من “هنري برجسون” تقول لا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر.. وهتاف الصامتين.. إنها نزهة في المقهور والمكبوت والمسكوت عنه.
تمثل التعابير الرمزية في المخزون الثقافي المجتمعي، (ومنه النكتة) إحدى الركائز لفهم المجتمعات والجماعات الإنسانية، فمن جهة يمكن اعتبارها مرآة صادقة لما تحمله من قيم ومعتقدات وممارسات وتصرفات.. ومن جهة أخرى تكشف، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، عن الجوانب الخفية للمجتمع سواء كانت في شكل مواقف أو تطلعات أو رغبات مكبوتة.. وذلك لتوفير التلقائية والدلالية للتعابير والرموز الثقافية وخاصة لارتباطها بالواقع الاجتماعي والمعيش اليومي.
عشرات النكت تبتكر يوميا على الألسنة، تتناثر على المسامع بأشكالها المختلفة وتتناول الواقع المر بكامله، والأحداث والوقائع والأشخاص أيضا اسما ومسمى. لا يمكنك أن تكون في مكان دون أن يباغتك أحد معارفك بنكتة لم تسمعها من قبل، فلكل مقام مقال، والنكتة دائمة الحضور.
النكتة أيضا سلاح المهموم يحملها معه في حله وترحاله بين الطرق المزدوجة بالاكتئاب والمكتظة بالشعور، بالحرمان، والشعور بالمعاناة ناهيك عن قلق ضغوطات الحياة الناتج عن مختلف تجليات الواقع المر والزمن الرديء.
النكتة بالمغرب موقف وحالة ومزاج كما أنها فن وإبداع.. وكذلك متنفس، ولا يهم أن تمتاز النكتة ببريق جمالي لافت للنظر، بل قد يكون جمالها في سخافتها وقبحها.
إنها نتاج فكري طريف يطال كافة شرائح المجتمع.. فلا تدع النكتة رجال السياسية ولا رجال الدين ولا عموم الناس.. تطال الأغنياء والفقراء.. الأغبياء والأذكياء.. الصالحين والطالحين..
الطيبين والأشرار.. إنها تعبير خيالي طريف ومضحك يثير أحيانا السخرية وأحيانا أخرى الشفقة لما تسعى إليه من مبالغة وتهويل.. فينفس المتلقي وأحيانا تبسيط وتسطيح للأمور. وهناك أجيال خرجوا إلى الوجود وهم يضحكون ولا يدرون لماذا؟!… أجيال تضحك في السراء والضراء.. وقت الرخاء ووقت الأزمات.. يضحكون قبل الأكل وبعد الأكل… يضحكون حين البرد والحر.. وأحيانا كثيرة يضحكون في كل الأوقات إلا في وقت الضحك الحقيقي، فإنهم يجهشون بالبكاء..
كل مسؤول بالمغرب نال نصيبه من النكت وحقه من السخرية السوداء، وهناك شخصيات بعينها نالت من السخرية والتنكيت ما تعجز عن حمله الجبال، وهناك من الأطفال ببعض المدن العتيقة من فتحوا أعينهم على النكتة وتربوا عليها، فصاروا يبتكرونها ويتناقلونها بحرفية ومهنية يحسدون عليها.
قد تشكل النكتة سلاحا فتاكا، فهي قد تذبح بدون أن تجرح، وفي مختلف مراحل الصراع على السلطة بالمغرب، شكلت سلاحا مضادا، بحيث، وكان العديد من القادة السياسيين والمسؤولين الكبار يخشون النكتة، وقد أكد أكثر من مصدر أن الملك الراحل الحسن الثاني، كان شديد الاهتمام بالتعرف على النكتة السائدة، سيما ما يطلق عليه شخصيا.
جميل أن نضحك وأجمل منه أن نضحك من أنفسنا، ففي ذلك تنفيس وترويح عما نواجهه في الحياة من قلق وإحباط، ولا نعتقد أن هناك شعبا على وجه الأرض بصرف النظر عن مستواه الاقتصادي ونمطه الثقافي ونظامه السياسي ودرجة احترام حرية التعبير والرأي فيه، لا يضحك من نفسه أو أنه لا يحب الضحك وتعاطي النكتة، تأليفا ونقلا وأداء، للتنفيس عن مكبوتاته، ولربما للضحك من أجل الضحك فقط.