مهن إبداعية كثيرة يعاني أصحابها من العمل المجهد الذي يتطلب الكثير من التركيز والوقت والجهد، ليجدوا أنفسهم يجلسون وحيدين لساعات وأيام بصحبة المهمة فقط بغرض الخروج بتصميم أو مقالة أو بحث أو تحرير فيديو أو كتابة أكواد لمواقع وتطبيقات والكثير غيرها. لكن اليوم يقول لك الذكاء الاصطناعي “لم تعد وحدك أنت والمهمة، ولم تعد تحتاج لكل هذا الجهد والوقت”، إذ يقدم مساعدين يختصرون كل ما سبق ويعززون الإنتاجية ويحسنون النتائج.
لكن هذا يتطلب أيضاً إتقان مهارات بإمكانها أن تغير شكل العمل ككل وطبيعته، على رأسها التدرب على كيفية التحدث مع النماذج اللغوية وقيادتها، وأن يعلم كل منا أن بمهاراته سيكون شريكاً ذكياً لا غنى عنه مع الذكاء الاصطناعي، وليس مجرد مشغل له، للخروج بمزيج فريد من الفطنة الإنسانية والبراعة الآلية.
حان وقت الانتقال من ثقافة الاستهلاك الرقمي إلى ثقافة الإنتاج والقيادة في عصر الذكاء الاصطناعي، والأمر برمته يتعلق بكيفية صياغة الأوامر والتعليمات.
لغة الحوار مع العقل الاصطناعي
وتعلم طريقة صياغة الأسئلة ليست مجرد امتلاك للمفتاح الصحيح، بل هي الحكاية كلها، والحقيقة أن كثراً من الأشخاص عندما يجربون النماذج اللغوية للمرة الأولى يستمرون بمعاملتها كبديل ذكي عن “غوغل” لا أكثر، في حين أن الفهم القاصر لهذه الأدوات يحرم كثيرين من ميزات يمكن أن تغير شكل حياتهم وإنتاجيتهم على حد سواء. وهنا علينا أن نعلم أن الحصول على نتيجة عامة وغير مرضية ليس بسبب ضعف الأداء، بل بسبب ضعف السؤال ذاته.
وهندسة الأوامر هي فن صياغة الأوامر والتعليمات الدقيقة التي توجه الذكاء الاصطناعي لإخراج أفضل ما عنده، والحقيقة أن هذا المصطلح يبدو للوهلة الأولى وكأنه اختصاصي بعض الشيء، إلا أنه في العمق هو هندسة للمحادثة نفسها وتعلم كيفية بنائها وتطويرها والسير بها إلى مكان يؤدي إلى نتيجة مختلفة وإبداعية، فهي المهارة التي تحول الذكاء الاصطناعي من أداة عامة إلى خبير متخصص في خدمتك والجسر الوحيد بين الفكرة البشرية المجردة والتطبيق العملي الدقيق، فالنموذج لا يعطي إجابة موحدة، بل يتفاعل مع السؤال وتركيبته، أو هندسته وبنائه، ومن ثم هندسة وبناء المحادثة ذاتها.
توسيع أفق الإبداع
يظن بعضهم أن الذكاء الاصطناعي سيقتل الإبداع، إلا أن هذه التقنية لا تعدو كونها أداة كما الآلة الحاسبة والريشة والقلم، بإمكانك اختيار استخدامها، وبهذا أنت تمتلك أقوى أداة إبداعية عرفتها البشرية حتى اليوم. وفي حين أن باستخدامك للريشة مثلاً أنت تبدع لوحات تخطف الأنظار، إلا أن القصة كلها بمهارتك أنت وليس بالريشة ذاتها، فالريشة لا تملك الإبداع وكذلك أدوات الذكاء الاصطناعي، تحتاج إلى المبدع لا يمكنها أن تبدع نيابة عنك، بل هي أداة بيد المبدع يوسع بها من آفاق إبداعه واحتمالاته في ثوان معدودة، وبذلك يمكن التفرغ إلى التفكير الاستراتيجي واللمسات الإنسانية بدلاً من الانشغال بالمهام الروتينية والخطوات المكررة.
جملة من القدرات لا تزال حكراً على العقل البشري وبها يقيم الإنسان، كقدرته على الابتكار وحل المشكلات المعقدة والربط والتحليل والتخطيط، في هذه الغاية يمكن استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي في المراحل الأولى من العمل على المشاريع الإبداعية، لتوليد أفكار أولية أو تصميمات أو حتى لحن موسيقي، ثم نقل هذا الإنتاج الخام إلى مساحة الإبداع والرؤية والروح البشرية الخاصة، لصقله وتنسيقه واتخاذ القرار الأخير.

التعليقات معطلة.