التضخم العالمي: أسبابه وتداعياته على الاقتصاد العالمي وسبل مواجهته
يُعرَّف التضخم بأنه زيادة عامة فـي الأسعار، وليس فقط سعر بعض السلع والخدمات، والذي يترتب عليه تراجع القوة الشرائية للعملة، مما يترجَم إلى زيادة عامة ودائمة فـي الأسعار. أما التضخم العالمي بشكل عام، فهو مقياس واسع إلى حد ما، حيث يتبعه زيادة إجمالية فـي الأسعار، مع ارتفاع تكلفة المعيشة فـي بلد ما أو فـي تكتل ما (مثل دول الاتحاد الأوروبي). ويُقاس التضخم باستخدام مؤشرات الأسعار التي تقارن مستوى أسعار سلة من السلع والخدمات فـي فترات مختلفة. والمؤشرات السعرية الأكثر استخدامًا لقياس التضخم تتمثل فـي المؤشر القياسي لأسعار المنتجين والرقم القياسي لأسعار الاستهلاك. وهذا الأخير يستند إلى نوعين من التضخم: التضخم الرئيسي، ويشمل رقم التضخم فـي سلعة من السلع التي تشمل سلعًا مثل الغذاء والطاقة. أما النوع الآخر فهو التضخم الأساسي، الذي يستثني أسعار الغذاء والطاقة أثناء حساب التضخم. بمعنى أن التضخم الأساسي لا يشمل الغذاء والطاقة؛ لأن أسعارهما متقلبة. وهو ما يسمح لنا بملاحظة اتجاهات أعمق فـي تغيرات الأسعار والنمو فـي تكاليف الإنتاج والعلاقة بين العرض والطلب.
ومن الملاحظ أنه بعد أن شهدت معدلات التضخم العالمي ارتفاعًا كبيرًا للغاية خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم، إلا أنها أضحت مستقرة نسبيًّا منذ مطلع الألفية، وعادة ما تتراوح بين 3-5% سنويًّا. ومع ذلك، نجد أنه فـي منتصف عام 2020، بدأت تلك المعدلات فـي الصعود مع انتعاش الطلب، وتعمق اضطرابات العرض، وارتفاع أسعار النفط. وفـي يوليو 2022، وصل التضخم العالمي إلى أعلى مستوى له منذ منتصف التسعينيات، ثم بدأ فـي الهبوط لكنه لا يزال أعلى بكثير من المعدل المتوسط لفترة ما قبل كوفيد-19. ويوضح لنا الشكلان التاليان تلك التطورات بدءًا من السبعينيات وحتى 2024.
وتبحث هذه المقالة عن دوافع التقلبات فـي التضخم العالمي ولماذا تراجع فـي الاقتصاديات المتقدمة خلال السنوات القليلة الماضية؟ كما تحاول أن تجيب على التساؤلات التالية: هل العوامل التي تفسر التضخم لا تزال «نقدية»؟ هل انخفاض معدل التضخم الأساسي يضع على المحك صحة الأطروحات النقدية لأنه يميل إلى التأكيد على أهمية العوامل ذات الطابع النقدي؟ هل ننتقل فـي تفسيرنا للتضخم العالمي من منطق صدمات الطلب إلى منطق صدمات العرض؛ مما قد يدعونا إلى إعادة التفكير فـي السياسات الاقتصادية الكلية للأعوام القادمة؟ وما تبعات كل ذلك على الاقتصاديات المتقدمة والنامية؟ وكيف يمكننا مواجهتها؟
أسباب التضخم العالمي
من أجل تفسير الطفرة التضخمية العالمية الراهنة، يتعين علينا أن نبحث فيما هو أعمق من المجملات الاقتصادية الكلية التقليدية؛
حيث تعد الارتفاعات الكبيرة فـي معدلات التضخم بقطاعات محددة جزءًا رئيسًا من التضخم الأساسي،
وهو مقياس يستبعد الغذاء والطاقة كما ذكرنا من قبل، ليكون مقياسًا أقل تقلبًا.
ومن أهم عناصر هذا التحليل التفاعل بين الارتفاع الكبير فـي الطلب والاختناقات والصدمات الخاصة بكل قطاع،
والتي من شأنها إحداث تحولات كبيرة فـي الأسعار النسبية، نتج عنها تشتت كبير فـي الأسعار. وفـي هذا الصدد يمكننا سرد ثلاث نتائج رئيسة:
أولًا: كانت صدمات أسعار النفط هي المحرك الرئيسي لتقلبات معدل التضخم العالمي بمساهمة تزيد عن 38%،
تلتها صدمات الطلب العالمي بمساهمة تبلغ حوالي 28% على مدى العقود الخمسة الماضية،
ومساهمات أقل بكثير من صدمات العرض العالمية وصدمات أسعار الفائدة.
بمعنى أن درجة استجابة معدل التضخم العالمي لتقلبات أسعار النفط وتغير الطلب العالمي كانت ذات أهمية. على سبيل المثال،
بعد ارتفاع أسعار النفط بنحو 10%، زاد معدل التضخم العالمي بمقدار 0.35 نقطة مئوية فـي غضون عام، و0.55 نقطة مئوية فـي غضون ثلاث سنوات. بالإضافة إلى ذلك، كانت أسعار النفط وصدمات الطلب العالمي بمثابة المحركات الرئيسة لتحركات التضخم العالمي حول كل ركود عالمي منذ عام 1970 و1975 و1982 و1991 و2009 و2020. كما أدت صدمات أسعار النفط والطلب العالمي إلى ارتفاع التضخم العالمي بين منتصف 2020 ومنتصف 2022.
ثانيًا: تزايدت مساهمة الطلب العالمي وصدمات أسعار النفط بمرور الوقت،
من 56% خلال الفترة 1970-1985 إلى 65% خلال الفترة 2001-2022،
فـي حين انخفضت أهمية صدمات العرض العالمية. ومنذ انتشار كوفيد-19،
شكلت صدمات الطلب العالمي وأسعار النفط معظم التباين فـي التضخم العالمي.
ومع ذلك فقد لعبت تغيرات أسعار النفط دورًا أقل تأثيرًا بكثير فـي التباين العالمي فـي تضخم مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي،
حيث كانت صدمات العرض العالمية هي المصدر الرئيس لهذا التباين.